استوقفني تقرير مهم للغاية أصدره معهد “رويترز” التابع لجامعة أكسفورد منذ شهرين، يتطرق فيه إلى حقيقة تهمني شخصياً وتهم كل العاملين في الحقل الإعلامي، وهو .. ارتفاع الثقة في الأخبار من مصادرها الأصلية، كالصحف والمجلات والتلفاز، وذلك في ردة فعل على الأخبار المفبركة التي تمتلأ بها مواقع التواصل الاجتماعي. ويُنظر إلى هذه الدراسة بكثير من التقدير والمصداقية، لأن عينتها وصلت إلى 93 ألف شخص موزعين على 46 دولة حول العالم.
وأتناول هذه الدراسة دون غيرها لأنها ببساطة تعتبر رداً عملياً حول مصير وسائل الإعلام التقليدية على اختلافها، وتراجعها لصالح الإعلام الرقمي الحديث. وإذا ما جمعتك الصدفة بأحدهم في لقاءٍ عابر، وعلم أنك تعمل في حقل الإعلام أو العلاقات العامة تحديداً .. ترى أن مخيلته تجود بكل أنواع النصائح عن ضرورة الاتجاه إلى الإعلام الرقمي، وأنه البديل عن أي نوع أو لون من الإعلام التقليدي.
إن المسألة عند البعض لا تعدو كونها موضة، ليتحدث عن أهمية التحول الرقمي التي يرون فيها سيدة الموقف في عالمنا المعاصر. ولكني أريد هنا أن أضع المسألة في إطارها الصحيح لتعم الفائدة، وذلك من منطلق تجربة شخصية تمتد لأعوام عديدة في قطاع الإعلام والعلاقات العامة.
لا يمكن لأي شخص أن يغض البصر عن التغيير العميق في أدوات وآليات التواصل بين الناس في ظل الانتشار المكثف لمواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها. ويكفي أن نعلم أن نسبة مستخدمي الإنترنت في الوطن العربي عام 2010 كانت لا تتخطى 27% من إجمالي عدد السكان، في حين أن نسبة السكان الرقميين (الذين يستخدمون الإنترنت) في دولة الإمارات تصل اليوم إلى 99%. من هنا ندرك أن عملية إيجاد قنوات تواصل تتطلب منا عملية دمج ذكية بين ما نعرفه من أدوات الإعلام والعلاقات العامة التقليدية، وإعادة صياغتها في قوالب رقمية تحقق محتوى تفاعلياً يضمن إيصال الرسائل المختلفة إلى الجمهور المستهدف.
إن جوهر الإعلام والعلاقات العامة واحد لم يتغير ولن يتغير، وإنما المتغير في هذه المعادلة هي قنوات التواصل التي ينبغي أن تراعي محددات المحتوى الرقمي المُقدم إلى الجمهور. فالسمعة المؤسسة كمفهوم تظل على ما هي عليه .. ولكن معركة الحفاظ عليها، إن جاز التعبير، انتقلت إلى الفضاء الإلكتروني. والمحتوى هو ذاته، ولكنه أصبح بحاجة إلى أدوات رقمية فاعلة مثل: صورة جميلة واضحة تدعمه وفيديوهات عالية الوضوح والكثافة تجعله أكثر جاذبية.
وهنا أود توضيح نقطة مهمة للغاية، وهي أن المحتوى الرقمي الناجح اليوم هو ذلك القائم على عملية بحث وتطوير شاملة، وليست عشوائية من خلال نشر بعض “البوستات” هنا أو إطلاق بعض الأخبار هناك، وإنما تستند إلى مؤشرات وعملية تدقيق يتم من خلالها تحديد مواطن القوة والضعف، الأمر الذي يقودنا إلى ركيزة أساسية أخرى يجب أن تتوفر في المحتوى الرقمي وهي القياس الكمي، بمعنى أن يتم تضمين أرقام وبيانات وحقائق للجمهور المستهدف للابتعاد عن العموميات التي باتت أكثر عوامل الطرد للجمهور الرقمي، الأمر الذي يعزز في نهاية المطاف من قوة الاستراتيجيات الاتصالية للعلاقات العامة.
إن نجاح العلاقات العامة رقمياً في منطقتنا يظل منوطاً بقدرتنا على قراءة خصائص وتقنيات الاتصال المؤسسي داخلياً (داخل المؤسسة أو الشركة) وخارجياً (مع الجمهور)، وتحديد التحديات ومعالجتها، فضلاً عن وضع أسس متينة وواضحة لكتابة المحتوى الرقمي وتوظيف الإنفوجرافيك في خدمة الرسائل الموجهة للمجتمع، وتحويل جانب من المسؤولية الاجتماعية إلى الفضاء الرقمي .. لنجد أنفسنا قادرين على قياس العائد على الاستثمار والعائد على العلاقات، وهما الجوهر الأهم لأي شركة خاصة أو مؤسسة عامة تلجأ إلى العلاقات العامة لتحقيق جانب من أهدافها التسويقية.
تقرير آخر استوقفني، يمكن أن نعتبره دراسة حالة في مجال الإعلام والعلاقات العامة، وهو تصنيف العاصمة أبوظبي المدينة الأولى عالمياً في الاستجابة لجائحة كورونا، ودولة الإمارات المرتبة الثانية على مستوى العالم في مرونة الاستجابة للجائحة. وفي هذا التقرير يستطيع القارئ أن يفهم كيفية إعادة هيكلة الإعلام والعلاقات العامة .. لا أقول بطريقة رقمية، وإنما أذهب لما هو أبعد من ذلك، وهو قدرة الإمارات على خلق أسلوب حياة رقمية.
لقد أدركت دولتنا منذ وقتٍ مبكر أهمية وجود بنية تحتية رقمية مؤهلة، فشاهدنا وشاهد العالم حالة من التواصل الخلاّق والمبدع أدت بدورها إلى خلق حالة من الوعي الجماعي في الوقت الفعلي، بمعنى أن القرارات والتعميمات المتعلقة بالفيروس كانت تصدر من الجهات المختصة في لحظتها لتعلم بها جميع فئات المجتمع في نفس اللحظة. ويكفي أن أذكر هنا أن الإمارات هي موطن أسرع شبكة إنترنت في العالم، فضلاً عن كونها الأولى عالمياً في معدل اشتراكات انترنت النطاق العريض، والأولى عالمياً أيضاً في اشتراكات الهاتف المتحرك لكل 100 من السكان، والأولى عالمياً في نسبة تغطية شبكات الهاتف المتحرك .. إلخ.
وللتفوق الإماراتي في قطاع الإعلام والعلاقات العامة قصة أخرى سأتناولها في حديث آخر.